في إنتظار ولادة البورجوازية العربية المفقودة

كثيرا ما نتحدث عن التقسيم الطبقي والتراتبية داخل مجتمعاتنا العربية، كثيرا ما نتحدث عن الطبقة البورجوازية المتحكمة في دواليب تسيير وحكم الدول العربية والإسلامية، ولا نعطي تعريفا واضحا لهذه الطبقة، خلفياتها وأفكارها، توجهاتها وما تصبوا إليه، يجب ان تقارن البورجوازية العربية التي يتحدث عنها المثقفون اليوم بالبورجوازية الغربية، الأوروبية منها والأمريكية، حتى نستطيع أن نطلق عليها هذا الإسم.
إن الطبقة البورجوازية كمفهوم ظهر في أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، يشير إلى تلك الطبقة المثقفة من المجتمع، المؤثرة فيه علميا وثقافيا وفكريا وكذا إقتصاديا وماليا، تمتلك السيطرة على الإنتاج ومؤسسات الدولة، تتحكم في المجتمع ككل، ما أنتج خللا وتفاوتات خطيرة، فإلى جانب هذه الطبقة هناك طبقة العمال والبلوريتاريا وغيرهم من المسحوقين الذين ينظرون إلى هذه الطبقة نظرة دونية، معتبرينها مجرد إستغلال لهم ولمقدراتهم وما ينتجونه، إنهم يكدحون من أجلهم فقط، في مقابل ذلك كانت الطبقة البورجوازية تحقق صعودا صاروخيا في جميع المجالات مستغلة في ذلك إستفادتها من التعليم وسيطرتها على وسائل الإنتاج والمراكز الحساسة.
البورجوازية التي قامت في أوروبا قامت على أسس علمية فكرية أساسها العلم وسلاحها الصناعة والتجارة لتفريغ الكم الهائل الذي أحدثته الثورات الصناعية بدول أوروبا، ولم تكن مجرد طبقة من الأغنياء تسعى بكل الطرق إلى إمتلاك كل شيء، من مال ومصانع وخيرات البلاد والعباد، فكل تلك الحركات الإمبريالية الشهيرة قامت بها هذه الطبقة، مولتها ودعمتها فعادت بالنفع العام عليها وعلى الدول التي تنتمي إليها، فأصبحت أوروبا ذات الطبقة البورجوازية الصاعدة، والتي تفتقر للموارد الطبيعية تتحكم في إقتصاد العالم.
إن رجالات هذه الطبقة في أوروبا كانوا من الطبقة المثقفة التي تهتم بالعلم والعلوم، ولم يكن همهم الوحيد جمع المال بقدر ما كانت تمتلكهم رغبة قوية في الرقي بمجتمعاتهم فكريا وإقتصاديا وغير ذلك، أسسوا الجامعات ومولوا البحوث العلمية وإحياء التراث، دعموا حركة الإستكشافات الجغرافية، فبسطوا بذلك سيطرتهم على العالم، ولم تكن لتسيطر هذه الطبقة ما لم توجه كل إهتمامها نحو التعليم والتشجيع على البحث العلمي، فالسفن والبنادق والآلات التي سيطروا بها على دول المستعمرات كانت نتيجة ما وصلوا إليه من تقدم علمي كبير، ولم يكن وليد الصدفة أو نتاج جمع المال وتكديسه، قهر الشعوب ونهب الثروات كما يحصل في دول أخرى.
لقد كانت البورجوازية الغربية سباقة إلى الإستثمار في العنصر البشري وإعتباره محور العملية التي ينبني عليها كل شيء، سلحته بالعلم والمعرفة، وجعلت منه أداة منتجة مفكرة، قادرة على الإبتكار والإختراع، عكس ما تعيشه نخب عقولنا وطاقتنا في العالم العربي من تهميش وإقصاء، نتيجة شجع هذه الطبقة ورغبتها فقط في الوصول إلى ملأ الأرصدة البنكية بالمال والتربع على كراسي السلطة، فيكون مصيرها الهجرة إلى الضفة الأخرى حيث البورجوازية الحقة.
لقد صنعت الطبقات البورجوازية الغربية كل هذا التقدم الكبير وما وصلت إليه دول الغرب، وعلى العكس من ذلك فإن أي حديث عن بورجوازية عربية فهو حديث سابق لأوانه، وأمر مضحك، لأن هذه الطبقة التي تحكمنا ويعيش معظمها بيننا لا تستطيع أن تحقق ما حققته الطبقة البورجوازية بالدول الغربية، لأنها وبكل بساطة لم تضع تطوير التعليم والبحث العلمي نصب عينيها، بل أهملته وحاربته، ولم تلقي له بالا، فكانت النكسات والأزمات سيدة مجتمعاتنا العربية التي تعاني ما تعانيه.
لم تستطع هذه الطبقة التي جعلت همها الوحيد جمع المال والوصول إلى السلطة، ولو كان ذلك على حساب الشعوب ومقدراتها، أن تكون النموذج الذي يعول عليه للقيام بنهضة إقتصادية و إجتماعية تخرج البلدان العربية من براثن الضعف والتخلف إلى التقدم، كما فعلت نظيراتها في الدول الغربية.
إن الطبقة البورجوازية العربية تكاد تنحصر في صراعها على كراسي السلطة والمال، وأغلب هؤلاء الذين يشكلون دروعها هم من الذين يسعون بشتى الوسائل لأن يجعلوا الطبقات الوسطى والأدنى تحت أقدامهم، يتحدكمون فيهم ويقررون مصيرهم، ينهبون خيراتهم ثم يقمعون حرياتهم تحت مسميات كثيرة.
إن الطبقة التي لا تهتم بكل ما هو علمي أو فكري، ولا تساعد مجتمعاتها على التقدم والرقي، لا يمكن أن نسميها بالبورجوازية، فالبورجوازية لم ترتبط يوما بالمال والسلطة فقط، وإنما هي خليط ثقافي وفكري يجمع شتات المجتمع ويكون عصارة تساعد الإنسان على تغيير أوضاعه، لا أن تخضعه وتحد من حرياته وكرامته.
إن ما بلغت إليه الطبقات البورجوازية وما رافق ذلك من تطور أفاد البشرية الغربية ومحق أطراف أخرى كثيرة، فإن لها جانبا آخر خفي لم تصل إليه البورجوازية العربية، والمتمثل في السيطرة الكاملة على الاسواق و رأس المال العالمي ومن بينها الأسواق العربية، وهذه الطبقة هي الحاكمة و المسيطرة على رأس المال عالميا، وهي نفسها وريثة ما قامت به سابقاتها منذ الإستكشافات مرورا بالحركات الإمبريالية إلى الإستعمار الغير مباشر اليوم.
لقد تحولت تدريجيا من منتجة إلى أخرى تعتمد بشكل كبير على الأرباح أي أنها لا تعمل بيدها لأنها تعتبر الطبقة المسيطرة على خطوط الإنتاج في الدول الصناعية، بل تسعى إلى أن يعمل الآخرون وتجني هي الأرباح، ضاربة الإنسانية وحقوق الإنسان عرض الحائط.
إن أي مقارنة نعقدها بين بورجوازيتنا العربية والعربية فإنها باطلة ولا تستند لأي معايير، فمهما كانت الغربية ظالمة نوعا ما، فإنها خلفت وتخلف من وراءها الكثير من الأشياء التي يستفيد منها المجتمع العالمي إلى اليوم، أما العربية فما أنتجت شيء إلا الصراعات السياسية والحروب الدموية، جعلت المجتمعات تسير إلى الوراء ولم تفهم الدرس بعد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى