موبايل في زنزانة المخابرات (١)!
في ليلتي الأولى داخل زنزانة المخابرات الجوية في دمشق لم أتمكن من النوم، كنت لا أزال في مرحلة الصدمة والإنكار، وكان الأمل عندي لا يزال في أعلى منازله.
بعض القدامى وجدوا لي مكان بين عشرات الرؤوس والأرجل التي أخذت وضعية النوم، والواضح أنهم اعتادوا عليها بحكم طول المدة. تلك الليلة كانت هادئة لأن السجان ولسبب أجهله لم يرغب في استخدام “ألوهيته” على المساجين الذين يتحكم بمصيرهم، هذا ما اكتشفته لاحقاً، فعادةً سادية السجان تطلق عنانها ليلاً، بعد أن يُذهب عقله بعشرات أقداح المُدام التي كنا نتمكن من عدها في بعض الأحيان عندما يقوم بطرق كأسه ب كأس السجان الآخر الذي أنهى نوبته وقرر أن يبقى قليلاً ليؤنس زميله الذي بدء نوبته للتو!
في تلك الليلة التي امتزجت فيها رائحة الأجساد التي لم يمسها الماء منذ أسابيع، مع صوت عواء الكلاب القريبة من مكان احتجازنا مع صورة أمي التي انهارت فور أن أخبروها أنهم اعتقلوني، سمعتُ صوت همس يأتي من الناحية الأخرى من الغرفة. الجميع كان نيام أو على الأقل كانوا يبدون كذلك! فمن أين يأتي ذلك الهمس. قطعت أنفاسي تماماً، لأتمكن من تحديد مكان الصوت، لكن مع تكدس الأجساد بالقرب من بعضها البعض، كان مستحيلاً تحديد مكان الصوت، إلا أن المفاجئة كانت عندما فهمت أن من يهمس كان يتحدث إلى أنثى!
الخاطر الأول الذي تبادر إلى ذهني أن من يهمس كان يتحدث إلى أحد أقاربه باستخدام الـ “موبايل”! لكن كيف وصل الموبايل إلى الغرفة، وكيف يبقونه مخفي عن أعين السجان؟ ألف سؤال تبادر إلى ذهني إلا أنها تلاشت فوراً مع نشوة السعادة التي بقدر ما شلت تفكيري، أطلقت خيالي إلى محادثة سأجريها مع أمي فور أن أحصل على هذا “الموبايل” لأخبرها أن تكف عن البكاء فأنا بخير.
أمضيت بقية الليلة في مكالمة طويله مع أمي، أخبرتها بكل ما أخفيته عنها سابقاً .. كيف كنت اسرق بعض السجائر من أبي عندما يكون نائما، وكم من مره ادعيت المرض لأتهرب من الذهاب الى المدرسة!، أخبرتها بأني كنت أعرف مخبأها السري الذي كانت تخبئ فيه بعض المال الذي توفره من مصروف البيت.. كنت “أقترض” منه أحياناً دون علمها، إلا أني لم أرجع ما اقترضته ولا مره واحدة! طال الحديث بيننا إلى أن فرغ شحن الموبايل وغرقت في نوم عميق!
أيقظني الشخص الذي كان بجانبي صباحاً ليخبرني أن السجان أحضر الفطور! وأنه لا بد من أن أُعدل جلستي ليتمكنوا من وضع الطعام في الوسط ليتمكن الجميع من الوصل إليه. لم أتناول إلا قطعة صغيرة من الخبز، فقد كنت في حالة شرود من آثار الحلم الذي لم أكن أرغب في أن أصدق أنه غير حقيقي، وهمي الأكبر كان أن أتمكن من تحديد متى تماماً بدأت الحلم؟ فأنا واثق من أن حديثي مع أمي كان حلم، لكن هل الهمس الذي سمعته لشخص يتحدث مع أنثى أيضاٍ كان حلماً! لا أنا متأكد من أنه كان حقيقة!
بقية اليوم كان اعتيادياً بحسب ما أخبرني المعتقلون القدامى، أشخاص يتم إخراجهم إلى التحقيق على أرجلهم، يعودون إلى الغرفة محمولين على الأكتاف ليُلقى بهم على باب الغرفة، يتم تجميعهم في طرف الغرفة المقابل للباب، ويترك لهم المساحة الأكبر ليرتاحوا بينما يتجمع البقيه في الطرف الآخر من الغرفة.
كنت أنتظر المساء بفارغ الصبر، لأتأكد من أن ما سمعته في الليلة السابقة لم يكن حلماً، فلم يكن من الممكن أن أسأل بشكل مباشر عن وجود “موبايل” في الغرفة! فأنا جديد في الغرفة؟ والجديد في غرفة الُمعتقل هو “عوايني – جاسوس” محتمل إلى أن يثبت العكس .في النصف الأول من الليل كان السجان في عز نشاطه، كنا نسمع صوت فتح باب الزنازين التي بجانبنا، وكل منا يتمتم ويبتهل إلى الله بطريقته حتى يتجنب السجان غرفتنا!
السجان الليلي وظيفته فقط مراقبة الوضع بشكل عام، وليس من مهامه التحقيق مع المعتقلين! لذلك كان الجميع يخشاه، فجلسات التحقيق النهارية قد تنتهي إذا ضَعُف المعتقل وقرر الاعتراف بالجرائم المنسوبة إليه! أما مع السجان الليلي، فلا طريقة لإنهاء التعذيب إلا بإشباع سادية السجان الذي قرر أن يمارس “ألوهيته” علينا.
ما انتهى السجان من طقوسه الليلة حتى ساد الهدوء مجدداً، وبحركة تلقائية أصبح الجميع في وضع النوم! كانت تلك اللحظة الأولى التي بدأت فيها أشعر بالذعر، فهل يُعقل أن يكون كل يوم في المعتقل مثل اليوم؟ وهل يمكن أن أصبح لاحقاً مثلهم متبلد المشاعر، أجنح للنوم ما أن تنتهي حفلة التعذيب طالما لم ينلني جانب منها؟
مزعج أنا حين أبدأ بمحاكمه الناس غيابياً؟ ومن قال إنهم نيام؟ إلا يمكن أنهم فقط بحاجه إلى أن يغمضوا أعينهم ليسافروا إلى مكان آخر؟ أو ربما ملوا من رؤية نفس الوجوه كل يوم! عاد صوت الهمس مجدداً قاطعاً جلسة محاكمة الذات قبل أن أتمكن من الدفاع عن نفسي! لكن هذا غير مهم، فقد كنت أنتظر صوت الهمس هذا بفارغ الصبر، ولولا انشغالي بتحديد مصدره لكنت ترافعت عن نفسي بخطبة صماء لا أرضى بعدها إلا بالبراءة.
صوت الهمس هذه المرة كان قادم من زاوية أخرى، من مكان تجمع الأشخاص الذين تم إخراجهم للتحقيق وعادوا محمولين على الأكتف! كنت بحاجه إلى أن أرفع رأسي لتحديد مكان الهمس، لكن هذا كان مستحيلاً، فأي حركة سأقوم بها ستتسبب في خربطة صفوف النائمين، فبسبب اكتظاظ الغرفة بعدد كبير من المعتقلين، كان لا بد من ابتكار طريقة سحرية لإيجاد مكان يتسع لـ 140 شخصاً في مساحة لا تزيد عن ٢٥ متر مربع.
والطريقة هي بأن يضع كل شخص قدميه بجانب رأس الآخر بعد أن ينام على جنبه، وهكذا يفعل الذي يليه والذي يليه.. وأي حركه خلال النوم من أحدهم ستتسبب في انهيار الصفوف تماماً كما يفعل حجر الدومينو عندما يرتطم بالذي يليه عندما تكون مصفوفه بشكل متقابل!
بعد أن أيقنت عجزي بتحديد مصدر الهمس باستخدام نظريات الفيزياء والرياضيات، وبتقليد الخفافيش في استخدام السونار الطبيعي الموجود في كل مخلوقات الأرض، قررت أن أستيقظ أول واحد عند الصباح لأتمكن من حفظ وجوه الموجودين في الزاوية التي يصدر منها صوت الهمس، لأحدد على الأقل أين أبحث في المرة القادمة.