مقال لوزير الخارجية الروسي “العالم في مفترق طرق ونظام العلاقات الدولية في المستقبل”
مقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف “العالم في مفترق طرق ونظام العلاقات الدولية في المستقبل” لمجلة “روسيا في السياسة العالمية”، 20 سبتمبر/أيلول عام 2019
تفتتح في هذه الأيام الدورة الجديدة ، الرابعة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة ، ويفتتح معها وفقا للتقاليد “الموسم السياسي” الدولي.
تبدأ الدورة على خلفية مرحلة تاريخية رمزية. إذ سنحتفل في العام القادم بمناسبات يوبيلية كبيرة ومترابطة، وهي الذكرى الخامسة والسبعون للانتصار في الحرب الوطنية العظمى والحرب العالمية الثانية، وتأسيس الأمم المتحدة.
ومن أجل فهم الأهمية الروحية والأخلاقية لهذه المناسبات من الضروري أن نذكر المعنى السياسي التاريخي للانتصار في أشد الحروب ضراوة في تاريخ البشرية.
كان لهزيمة الفاشية في عام 1945 أهمية أساسية لسير التاريخ العالمي لاحقا. فقد تم خلق الظروف المواتية لتشكيل النظام العالمي بعد الحرب، الذي أصبح ميثاق الأمم المتحدة عماده الرئيس، والذي لا يزال حتى يومنا هذا المصدر الرئيسي لمعايير القانون الدولي. ولا يزال نظام الأمم المتحدة المركزي يحتفظ باستقراره، بل ويتمتع باحتياطي كبير للمتانة. وهو بمثابة “شبكة للأمان” تضمن التطور السلمي للبشرية في ظروف تضارب المصالح، الطبيعي إلى حد كبير، والتنافس بين القوى الرئيسية. ولا تزال الحاجة قائمة للاستفادة من الخبرة المكتسبة في سنوات الحرب من التعاون الخالي من الأيديولوجية بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية المختلفة.
من المؤسف أن بعض القوى المتنفذة في الغرب تلتزم الصمت بشأن هذه الحقائق الواضحة، بل وتتجاهلها. وعلاوة على ذلك، ازداد نشاط أولئك الذين يودون “الاستئثار” بالنصر، ومحو دور الاتحاد السوفيتي في هزيمة الفاشية من الذاكرة ، ونسيان مأثر التضحية المتفانية للجيش الأحمر في سبيل التحرير، وعدم تذكر الملايين العديدة من المواطنين السوفييت المسالمين الذين قضوا في سنوات الحرب، ومحو ذكر عواقب السياسة المهلكة لاسترضاء المعتدي من صفحات التاريخ. ويظهر بوضوح، من وجهة النظر هذه، جوهر مبدأ “المساواة بين الأنظمة الشمولية”. وهو ما يهدف ليس فقط لمجرد التقليل من نصيب الاتحاد السوفيتي في النصر، بل وحرمان بلدنا بأثر رجعي من الدور الذي حدده التاريخ له كمهندس وضامن للنظام العالمي ما بعد الحرب، ثم وصمه بصفة “الدولة التحريفية” التي تهدد رفاهية ما يسمى “بالعالم الحر”.
إن مثل هذا التفسير لأحداث الماضي يعني أيضا أن بعض الشركاء يفهم أن الإنجاز الرئيسي لنظام العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب يجب أن يكون تشكل الرابط العابر للأطلسي وتأبيد الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا. وبطبيعة الحال ليس هذا بالسيناريو الذي استرشد به الحلفاء عند تأسيسهم لمنظمة الأمم المتحدة.
إن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين الذي كان يفصل بين المعسكرين، وزوال المواجهة الأيديولوجية الشديدة، التي كانت تحدد معالم السياسة العالمية في جميع المجالات والمناطق تقريبا – إن هذه التغييرات الجذرية لم تؤد للأسف الى انتصار الأجندة الجامعة. ولكن بدلا من ذلك أخذت تتعالى إعلانات ظافرة عن حلول “نهاية التاريخ”، وأن مركز اتخاذ القرارات العالمية بات من الآن فصاعدا واحدا فقط.
من الواضح تماما اليوم أن محاولات إقرار النظام أحادي القطبية فشلت. وارتدت عملية تغير النظام العالمي طابعا لا رجعة له. ويسعى اللاعبون الكبار الجدد الذين يملكون قاعدة اقتصادية متينة إلى زيادة التأثير على العمليات الإقليمية والعالمية وكذلك يطمحون لمشاركة أوسع في اتخاذ القرارات المحورية. وتتزايد الحاجة إلى نظام أكثر عدالة وشمولا. وترفض الأغلبية المطلقة من أطراف المجتمع الدولي الآراء الاستعمارية الجديدة المتعجرفة التي تمنح بعض الدول الحق في أملاء إرادتها على الأخرين.
ويثير كل ذلك إنزعاجا واضحا لدى من تعوّد على صياغة قوالب التطور العالمي وفقا لامتيازاته الاحتكارية. وتسعى أغلبية الدول إلى إنشاء منظومة أكثر عدالة للعلاقات الدولية وإلى تأمين احترام واقعي وغير شكلي لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وتواجه هذه المساعي إلى الحفاظ على النظام الذي لا تستفيد في ظله من ثمار العولمة إلا مجموعة محدودة من الدول والشركات العابرة للقارات. ويتيح رد فعل الغرب فرصة للتعرف على منطلقاته العقائدية الحقيقية. إن لغة الخطاب حول موضوعات “الليبرالية” و”الديموقراطية” و”حقوق الانسان” مصحوبة بالترويج للمقاربات القائمة على عدم المساواة وغياب العدالة والأنانية والثقة بالاستثنائية الخاصة والتفرد.
وبالمناسبة تضع “اللبرالية” التي يدعي الغرب بأنه يدافع عنها… تضع الشخصية الفردية وحقوقها وحريتها في المركز. وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: كيف تتناسب مع هذا الأمر سياسة العقوبات والشنق الاقتصادي والتهديدات العسكرية السافرة إزاء عدد من الدول المستقلة مثل كوبا وإيران وفينزويلا وكوريا الشمالية وسوريا؟ إذ تُلحق هذه العقوبات ضررا مباشرا بالناس البسطاء ورفاهيتهم، فضلا عن كونها تنتهك حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية. وكيف يتفق مع حتمية حماية حقوق الانسان قصف الدول ذات السيادة والسياسة المتعمدة الرامية لتقويض أنظمتها، والذي أدى إلى قتل مئات الألوف من الناس وأنزل بالملايين من العراقيين والليبيين والسوريين آلاما لا تعد ولا تُحصى؟ لقد أدت مغامرات “الربيع العربي” إلى تدمير فسيفساء التنوع العرقي والديني الفريدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
أما أوروبا فيتعايش فيها المدافعون عن الفكرة اللبرالية برضى تام عن الانتهاكات الجمة لحقوق السكان الناطقين باللغة الروسية في عدد من دول الاتحاد الأوروبي وجيرانها، حيث تصدر القوانين التي تنتهك بصورة وقحة الحقوق اللغوية والتعليمية للأقليات القومية المنصوص عليها في الاتفاقيات المتعددة الأطراف.
وما هي الصفات “اللبرالية” في العقوبات الغربية فيما يخص منح التأشيرات وغير ذلك من العقوبات المفروضة بحق أهل القرم الروسي لأنهم يعاقَبون على إبداء إرادتهم ديموقراطيا لصالح إعادة انضمامهم إلى وطنهم التاريخي. أليس هذا مناقضا لحق الشعوب الأساسي في تقرير مصيرها بحرية، ناهيك عن حق المواطنين في حرية التنقل، وهو الحق المكفول بموجب الاتفاقيات الدولية.
إن الليبرالية بمعناها السليم وغير المشوه تعتبر مكوناً مهماً للفكر السياسي العالمي، بما في ذلك الروسي. إلا أن كثرة النماذج التطور لا تسمح بالحديث عن أنه لا بديل “لسلة” القيم الليبرالية الغربية. وبالطبع لا يمكن حمل هذه القيم على “الحِراب” دون الأخذ بالاعتبار تاريخ الدول و”قانونها” الثقافي والسياسي. فإلى ماذا يمكن أن يؤدي ذلك، هذا ما تشهد عليه إحصائيات المآسي والدمار نتيجة رمي القنابل “الليبرالية”.
لا يقبل الغرب اليوم بواقع أنه بعد مئات السنوات من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية بدأ يفقد صلاحياته الأحادية في صياغة الأجندة العالمية، ومن هنا نما نهج “النظام القائم على القواعد”. فهذه “القواعد” تُوضع ويُجمع فيما بينا بانتقائية انطلاقاً من حاجات مؤلفي هذا المفهوم الذي يُدخله الغرب بإصرار في حيّز الاستخدام. فهذا النهج لا يعتبر تأمليا ويجري تنفيذه بنشاط. وهدفه هو استبدال الأدوات والآليات القانونية الدولية العامة المتفق عليها بأطر ضيقة، حيث تُستخدم الطرائق البديلة غير الموافق عليها بالإجماع لتسوية المشاكل الدولية التفافا على الأطر الشرعية متعددة الجهات. وبتعبير آخر، التعويل على اغتصاب عملية صنع القرارات في القضايا الأساسية.
إن نوايا مبادري نهج “النظام القائم على القواعد” تمس حصرا صلاحيات مجلس الأمن الدولي. ومن الأمثلة الأهم على ذلك، عندما لم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من إقناع مجلس الأمن بالموافقة على القرارات المسيّسة التي تتهم دون أية أدلة قيادة سوريا في استخدام المواد السامة المحظورة، فقد بدأوا بطرح “القواعد” الضرورية لهم عبر منظمة حظر الأسلحة الكيمائية. وبالتلاعب في الإجراءات الموجودة وبانتهاك فاضح لمعاهدة حظر الأسلحة الكيمائية، تمكنوا (بأقلية أصوات الدول الأعضاء في هذه المعاهدة) من منح الأمانة الفنية لمنظمة الحظر صلاحية تحديد المذنبين في استخدام الأسلحة الكيمائية، فأصبح ذلك اقتحاما مباشرا في صلاحيات مجلس الأمن الدولي. إن محاولات “خصخصة” أمانات المنظمات الدولية لتحقيق المصالح الخاصة خارج إطار الآليات الدولية العامة، هذه المحاولات أصبحت تُلاحظ في الكثير من المجالات سواء في عدم نشر الأسلحة البيولوجية، وفي حفظ السلام ومكافحة المنشطات في الرياضة وغيرها.
وفي السياق ذاته نجد مبادرات تنظيم عمل الصحافة الرامية إلى التضييق الطوعي على حرية وسائل الإعلام، وكذلك أيدولوجية التدخل تحت مسمى “مسؤولية الحماية”، والتي تبرر “التدخل الإنساني” العسكري الخارجي دون أي عقوبات من قبل مجلس الأمن تحت ذريعة ظهور تهديدات على أمن المواطنين المدنيين.
كما ان هناك حاجة لإعارة اهتمام خاص لمفهوم “مكافحة التطرف العنيف” المثير للجدل، والذي يحمّل مسؤولية نشر الإيديولوجيات المتطرفة وتوسيع قاعدة الإرهاب الاجتماعية على الأنظمة السياسية، التي يدّعي الغرب أنها غير ديمقراطية وغير ليبرالية واستبدادية. إن تركيز هذا المفهوم على العمل المباشر مع منظمات المجتمع المدني “التفافا” على الأنظمة الشرعية لا يترك أية شكوك بشأن الهدف الحقيقي له، وهو سحب الجهود في مسار مكافحة الإرهاب من تحت “مظلة” الأمم المتحدة والحصول على آلية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول.
إن تنفيذ مثل هذه الابتكارات يمثل ظاهرة خطيرة للنزعة التحريفية التي ترفض المبادئ المتجسدة في ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وتُمهّد لطريق العودة إلى عهد المجابهة والنزاع بين التحالفات. فليس من باب الصدفة أن يناقش الغرب بصراحة الحد الفاصل الجديد بين “النظام الليبرالي القائم على القواعد” و”الدول الاستبدادية”.
كما تتجلى النزعة التحريفية بشكل واضح في مجال الاستقرار الاستراتيجي. إن نسف واشنطن بداية لمعاهدة الدفاع الصاروخي، والآن لمعاهدة التخلص من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بتأييد بالإجماع من قبل أعضاء حلف الناتو، تشكل مخاطر تهديم بناء الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في مجال السيطرة على الأسلحة الصاروخية النووية. وما برحت أفق معاهدة ستارت الجديدة غير واضحة تماماً بسبب عدم الرد الظاهر لدى الطرف الأمريكي على مقترحنا بشأن الاتفاق على تمديد المعاهدة بعد انتهاء مدة سريانها في فبراير/شباط عام 2021. أما الآن فنرى إشارات تشغل البال بخصوص الحملة الإعلامية الأمريكية الرامية إلى تمهيد التربة للتخلي النهائي عن معاهدة الحظر الشامل على الاختبارات النووية (التي لم تبرمها الولايات المتحدة) مما يبعث على الشك في مستقبل الوثيقة بالغة الأهمية بالنسبة للسلام والأمن العالميين. وقد بدأت واشطن تنفيذ خططها لنشر الأسلحة في الفضاء الكوني، رافضةً أية مقترحات للتوصل إلى اتفاق الحظر العالمي على ممارسة نشاط كهذا.
وخير دليل على تبني “القواعد” التحريفية هو انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة حول الملف النووي الإيراني والتي أقرها مجلس الأمن الدولي “كعقد” مشترك له أهمية مفصلية لنظام حظر الانتشار النووي. فضلاً عن ذلك، رفضت واشنطن بشكل استعلائي تطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي المقرة بالإجماع حول التسوية الفلسطينية الإسرائيلية.
في المجال الاقتصادي باتت “القاعدة” هي فرض الحواجز الحمائية وسياسة العقوبات واستغلال وضع الدولار كوسيلة أساسية في المعاملات وتوفير الامتيازات التنافسية التفافاً على الأسواق وتطبيق القانون الوطني الأمريكي خارج الحدود، بما في ذلك فيما يتعلق بأقرب الحلفاء.
في نفس الوقت، زملاؤنا الأمريكيون يسعون كما يبدو لحشد كل ما استطاعوا من شركائهم الخارجيين من أجل ردع روسيا والصين، وهم في الوقت نفسه لا يخفون الرغبة في إيقاع الخلاف بين موسكو وبكين، وإعطاب وتقويض التحالفات متعددة الأطراف المتنامية خارج إطار السيطرة الأمريكية التجمعات الاندماجية الإقليمية في أوراسيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي. كما يمارسون الضغوط على الأطراف التي لا تلعب وفقا “للقواعد” التي تفرضها عليها واشنطن، وتتجرأ على تبني خيار “خاطئ” لصالح التعاون مع “خصوم” امريكا.
ماذا لدينا بالنتيجة؟ في السياسة، لدينا زعزعة لأركان الشرعية الدولية، وتزايد لانعدام الاستقرار والاختلال بالتوازن، وتقسيم فوضوي للفضاء العالمي، وتعميق لانعدام الثقة بين أطراف الحياة الدولية. أما من ناحية الأمن، فهناك انحسار للحدود بين الأساليب المعتمدة على القوة ونقيضتها لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وعسكرة العلاقات الدولية، وتعزيز دور السلاح النووي في الوثائق العقائدية الأمريكية، وخفض العتبة لإمكانية استخدام هذا السلاح، وظهور بؤر جديدة للنزاعات المسلحة، وتكريس التهديد الإرهابي الشامل، وعسكرة الفضاء السيبراني. أما في الاقتصاد العالمي، فهناك مستوى عال من التقلبات، وتصعيد للتنافس على الأسواق وموارد الطاقة وطرق نقلها، والحروب التجارية، وزعزعة كيان النظام التجاري متعدد الأطراف، ونضيف إلى ذلك ظهور موجات الهجرة، وتعميق التفرقة القومية والطائفية. هل هذا هو “النظام العالمي القائم على القوانين” الذي نحتاجه؟
على خلفية ذلك، فإن محاولات الآيديولوجيين الليبراليين الغربيين في إظهار روسيا “كقوة تحريفية” هي ببساطة محاولات سخيفة. كنا من بين الأوائل الذين لفتوا الانتباه إلى تحولات الأنظمة السياسية والاقتصادية العالمية، والتي لا تستطيع بأي حال أن تبقى ثابتة في إطار المسار الموضوعي للتاريخ، وليس عبثا أن نذكّر بأن مبدأ تعددية الأقطاب في العلاقات الدولية الذي يعكس بشكل مناسب الواقع الاقتصادي والجيوسياسي قد صاغه منذ عقدين من الزمن رجل الدولة البارز، الروسي يفغيني بريماكوف، والذي يحتفظ ميراثه الفكري بواقعيته إلى يومنا هذا، فيما نحتفل بالعام الـ90 لمولده.
تظهر تجربة الأعوام الأخيرة أن استخدام الأساليب أحادية الجانب لحل المشكلات الشاملة مآلها الفشل. “النظام” الذي يروج له الغرب لا يستجيب لمتطلبات التنمية الإنسانية المتجانسة. هذا “النظام” ليس شاملا، ويهدف لإعادة صياغة الآليات الدولية القانونية الأساسية، ويستبعد انطلاق التعاون الجماعي بين الدول، وغير قادر من حيث المبدأ على الخروج بحلول مطلوبة ثابتة وقابلة للحياة للمسائل الشاملة على المدى البعيد، لا تعتمد على المفعول الدعائي في إطار دورة انتخابية في هذا البلد أو ذاك.
ما الذي تعرضه روسيا؟ قبل كل شيء، يجب مواكبة الزمن، والاعتراف بأمر بديهي، ألا وهو حتمية عملية تشكيل هيكلية عالمية متعددة الأقطاب، وذلك مهما حاولوا كبح هذه العملية بشكل مصطنع (والأكثر من ذلك عكس سيرها). غالبية الدول ترفض أن تكون رهينة لحسابات جيوسياسية أجنبية، بل تحرص على ممارسة السياسة الداخلية والخارجية السيادية. هذا ويصب في المصالح المشتركة عدم جعل تعدد الأقطاب يتمركز على مجرد توازن للقوى، كما كان الأمر في الحقب التاريخية المنصرمة (مثلا، في القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20)، بل يجب أن تتسم التعددية القطبية بطابع عادل ديمقراطي موحد، وتأخذ بعين الاعتبار نهج ومخاوف جميع أطراف المجتمع الدولي من دون استثناء، وتسهم في تأمين مستقبل مستقر وآمن.
غالباً ما يصرّون في الغرب على أن تعددية الأقطاب ستؤدي حتماً إلى زيادة الفوضى والمواجهة، لأن “مراكز القوة” لن تكون قادرة على الاتفاق فيما بينها واتخاذ قرارات مسؤولة. لكن لماذا لا نجربها أولا؟ فربما ننجح؟ نحتاج فقط من أجل هذا إلى البدء بالمفاوضات، بعد الاتفاق المسبق على السعي لإيجاد توازن في المصالح. وأن نضع جانبا محاولات اختراع “قواعد” خاصة وفرضها على الجميع كحقيقة مطلقة. يجب من الآن فصاعدا، التقيد الصارم بالمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، بدءًا من احترام المساواة في السيادة بين الدول – بغض النظر عن حجمها أو شكل سلطة الدولة أو نموذجها التنموي. ومن الغرابة بمكان أن الدول التي تقدّم نفسها كمعيار للديمقراطية، لا تسهر عليها إلا عندما تطالب دولا أخرى “بترتيب الأمور” فيها وفقًا للنماذج الغربية. وبمجرد أن يدور الحديث حول الحاجة إلى الديمقراطية في العلاقات الدولية، فإنهم يتهربون على الفور من أي حديث صادق أو يحاولون تفسير القانون الدولي حسب تقديريهم.
بالطبع، الحياة لا تقف ساكنة. وبالمحافظة بعناية على منظومة العلاقات الدولية والتي تشكلت كنتيجة للحرب العالمية الثانية، والتي لا تزال الأمم المتحدة هي العنصر المحوري فيها، من الضروري تكييفه بدقة ولكن بثبات مع واقع المشهد الجيوسياسي المعاصر. ينطبق هذا الأمر بشكل كامل على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إذ يتم تمثيل الغرب بشكل مفرط وعلى نحو غير متزن من حيث المعايير الدولية الحديثة. نحن على قناعة بأن إصلاح مجلس الأمن يجب أن يأخذ في الاعتبار في المقام الأول مصالح بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأن تستند أي صيغة على مبدأ ضمان التوافق الأوسع بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وبنفس السياق، ينبغي أن نعمل على تطوير منظومة التجارة العالمية مع إيلاء أهمية خاصة لتنسيق المشاريع التكاملية في مختلف مناطق العالم.
يجب استخدام إمكانات “مجموعة العشرين” إلى أقصى حد ممكن – وهي منظومة واعدة وواسعة النطاق للإدارة العالمية، حيث يتم تمثيل مصالح جميع اللاعبين الرئيسيين، ويتم اتخاذ القرارات باتفاق جماعي. وتلعب الرابطات الأخرى التي تعكس روح التعددية الديمقراطية الحقيقية دورًا متزايدًا، ويستند عملها على التطوع ومبدأ الإجماع وقيم المساواة والبراغماتية السليمة ورفض المواجهة والنهج التكتلي. من بينها مجموعة “بريكس” ومنظمة شانغهاي للتعاون، حيث يشارك فيهما بلدنا بنشاط وسيترأسهما عام 2020.
من الواضح أنه بدون التعاون الحقيقي وبدون الشراكة غير المسيسة في ظل الدور التنسيقي المركزي للأمم المتحدة، لا يمكن تخفيض المواجهة وتعزيز الثقة واحتواء التحديات والتهديدات المشتركة. لقد حان الوقت للاتفاق على تفسير موحد لمبادئ وقواعد القانون الدولي وعدم الاعتماد على الحكمة المعروفة التي تسمح بتفسير فضفاض للقانون. إن التوصل الى الاتفاق أصعب من توجيه الإنذارات الأخيرة، لكن الحلول الوسط المتفق عليها بصبر ستكون آلية أكثر موثوقية لإدارة الشؤون الدولية التي يمكن التنبؤ بها. واليوم هناك حاجة ماسة لهذا النهج للبدء بمفاوضات موضوعية حول معايير منظومة موثوق بها وعادلة للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوروبا الغربية وأوراسيا. تم الإعلان عن هذه المهمة مرارًا وتكرارًا على أعلى المستويات في وثائق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. يجب أن ننتقل من الأقوال إلى الأفعال. أعربت رابطة الدول المستقلة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي أكثر من مرة عن استعدادهما للمساهمة في هذا العمل.
من الضروري تكثيف العمل في التسوية السلمية لكافة الأزمات أكانت في الشرق الأوسط أو أفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية أو في فضاء رابطة الدول المستقلة. المهم هو الالتزام بما تم التوصل إليه من اتفاقات ومن دون محاولة ابتكار الحجج للتنصل من تنفيذ الالتزامات المتخذة خلال المفاوضات.
اليوم أصبحت مواجهة التعصب المبني على أساس ديني أو قومي أكثر الحاحاً. ندعو الجميع للتعاون في التحضير لعقد مؤتمر عالمي للحوار بين الأديان وبين الأعراق في مايو/أيار من سنة 2022 في بلدنا وتحت رعاية الاتحاد البرلماني الدولي والأمم المتحدة. يجب على منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والتي صاغت موقفاً مبدئياً يدين معاداة السامية، أن تواجه بنفس الصرامة كراهية المسيحية وكراهية الإسلام.
تبقى أولويتنا المطلقة هي المساعدة في عملية تشكيل الشراكة الأوراسية ذات الاطار التكاملي الواسع من الأطلسي وإلى المحيط الهادئ بمشاركة أعضاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة شنغهاي للتعاون ورابطة دول جنوب شرق آسيا وباقي دول القارة، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي. إنه لمن قصر النظر محاولة كبح العمليات الاتحادية ناهيك عن المحاولات الانعزالية، ولكان من الخطأ رفض الأفضلية الاستراتيجية البديهية لمنطقتنا الأوراسية المشتركة في عالم تزداد فيه المنافسات.
التحرك المنسق في هذا الاتجاه الابداعي لن يسمح بتوفير النمو الديناميكي للاقتصادات الوطنية للدول المشاركة والتخلص من العقبات أمام حركة السلع ورؤوس الأموال والقوى العاملة والخدمات فحسب، بل وسيشكل أساساً متيناً للأمن والاستقرار في الفضاء الواسع من لشبونة وصولاً إلى جاكارتا.
فإن تحقيق النجاح في عملية تشكيل العالم المتعدد الأقطاب عبر التعاون والتوافق بين المصالح بعيدا عن المواجهة والنزاعات يتوقف على جهودنا المشتركة. أما روسيا فسوف تستمر في ترويج الأجندة الإيجابية التوحيدية التي ترمي الى إزالة خطوط الفصل القديمة والحيلولة دون ظهور خطوط الفصل الجديدة. لقد تقدمت بلادنا بمبادرات في مجالات عدة بما فيها منع سباق التسلح في الفضاء الكوني وإنشاء أدوات فعالة لمكافحة الإرهاب، لا سيما الإرهاب الكيميائي والجرثومي، إضافة الى تنسيق التدابير العملية الخاصة بالحيلولة دون استخدام الفضاء السيبراني لتقويض أمن أي دولة ناهيك عن تطبيق مخططات إجرامية أخرى.
لا تزال مقترحاتنا الخاصة بالبدء في الحوار الجدي حول جميع مقومات الاستقرار الاستراتيجي في العصر الحديث قائمة. هذا ونسمع في الآونة الأخيرة أصواتا داعية الى ضرورة تغيير جدول الأعمال وتجديد المصطلحات، إذ يقترحون الحديث عن “المنافسة الاستراتيجية” تارة و”الردع متعدد الأطراف” تارة أخرى. نعم، يمكن مناقشة المصطلحات، ولكن جوهر الأمور أهم من المصطلحات. واليوم تزداد أهمية إطلاق الحوار الاستراتيجي لمناقشة التهديدات والمخاطر الراهنة والبحث عن التوافق حول صياغة أجندة ترضي الجميع. هذا وجاء في المقولة الحكيمة لأندري غروميكو رجل الدولة البارز في بلادنا والذي نحتفل في السنة الجارية بذكرى مرور 110 أعوام على ميلاده: “10 سنوات من المفاوضات أفضل من يوم واحد من الحرب”.