لماذا تأجيل ترامب لرسومه الضخمة يجب أن يثير قلقك؟
كان من المفترض أن يكون اليوم الأربعاء الموافق التاسع من يوليو، هو موعد دخول ما يُعرف بـ"الرسوم الجمركية المتبادلة" التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب حيّز التنفيذ، بعد تأجيل دام ثلاثة أشهر، وذلك في حال عدم التوصل إلى اتفاقات تجارية. لكن، تم تأجيل تطبيق هذه الرسوم مجددًا.

فقد قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب تأجيل تنفيذ الرسوم حتى الأول من أغسطس، ليمدد بذلك حالة الغموض أمام الشركات، ومن ناحية أخرى، يمنح شركاء الولايات المتحدة التجاريين مزيدًا من الوقت للتوصل إلى صفقات تجارية وتجنّب فرض رسوم باهظة.
غالبا سيرحّب خبراء الاقتصاد بهذا التأجيل. فقد عبّر معظم الاقتصاديين منذ فترة طويلة عن رفضهم للرسوم الجمركية، مشيرين إلى دراسات تُظهر أن هذه الرسوم تضر بالدول التي تفرضها، بما يشمل العمال والمستهلكين على حد سواء.
وعلى الرغم من إدراكهم للمشكلات التي قد تنتج عن التجارة الحرة، فإن فرض رسوم جمركية مرتفعة نادرًا ما يُعتبر حلاً ناجعًا، بحسب تقرير تم نشره على موقع CNN الأميركي.
حتى الآن، لم تُسجّل الرسوم التي فرضها ترامب تأثيرًا ملموسًا على التضخم في الولايات المتحدة، كما لم تؤدِ إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي أو إلى تراجع في خلق الوظائف.
من جانبه، يصف وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت التضخم بـ “الكلب الذي لم ينبح بعد”. لكن، العديد من الاقتصاديين يعتقدون أن آثار الرسوم الجمركية قد تكون مؤجلة، وقد تبدأ بالظهور بشكل أكثر وضوحًا مع نهاية العام، محذرين من أن هذا الهدوء الحالي قد يعطي الإدارة انطباعًا زائفًا بالأمان.
أنطونيو فاتاس، أستاذ الاقتصاد في كلية إنسياد لإدارة الأعمال، يقول لشبكة CNN: “الإيجابيات الناتجة عن التجارة الحرة تفوق السلبيات، حتى في الدول الغنية. أعتقد أن الولايات المتحدة استفادت من الانفتاح الاقتصادي، وكذلك أوروبا”.
المستهلك هو الخاسر الأكبر
تُعد الرسوم الجمركية في جوهرها شكلًا من أشكال الضرائب على الواردات، وغالبًا ما تكون نتيجتها المباشرة ارتفاع التكاليف على المنتجين والأسعار على المستهلكين، بحسب ما يؤكده خبراء اقتصاديون.
وتشير بيانات صادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية “OECD” إلى أن نحو نصف واردات الولايات المتحدة هي من السلع الوسيطة، أي المكونات أو المواد التي تُستخدم في تصنيع المنتجات النهائية الأميركية.
وفي هذا السياق، قال دوغ إروين، أستاذ الاقتصاد في كلية دارتموث، خلال ظهوره في بودكاست EconTalk في مايو الماضي: “إذا نظرت إلى طائرة من طراز بوينغ أو سيارة مصنّعة في الولايات المتحدة أو كندا، ستجد أنها تعتمد على مصادر دولية”.
وأضاف أن ارتفاع كلفة استيراد المكونات يدفع الشركات الأميركية إلى مواجهة ضغوط مالية متزايدة نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج.
وبالطريقة ذاتها، فإن الرسوم الجمركية ترفع كلفة السلع الأجنبية الجاهزة التي تستوردها الشركات الأميركية، مما يؤدي في النهاية إلى تحميل المستهلك العبء الأكبر.
وقال إروين: “غالبًا ما تضطر هذه الشركات إلى تمرير الزيادة في التكاليف إلى المستهلكين، لأنها لا تملك احتياطيات مالية ضخمة تمكّنها من امتصاص رسوم جمركية بنسبة 10 بالمئة أو 20 بالمئة أو حتى 30 بالمئة”.
وتعني هذه الديناميكية أن فرض رسوم جمركية مرتفعة، وإن كان يستهدف دعم الإنتاج المحلي والصناعة الوطنية، قد يؤدي عمليًا إلى إضعاف القدرة الشرائية للأسر الأميركية وزيادة الضغط على التضخم، في وقت تحتاج فيه الأسواق إلى استقرار أكبر.
التاريخ يعيد نفسه
ما يُتوقع حدوثه اليوم ليس جديدًا على الاقتصاد الأميركي، بل هو تكرار لما جرى خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى، عندما فرض في عام 2018 رسومًا جمركية حادة على واردات بقيمة 283 مليار دولار.
وأظهرت دراسة أُجريت عام 2019 شاركت في إعدادها ماري أميتي من بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، أن هذه الرسوم انتقلت بالكامل إلى أسعار السلع المستوردة داخل الولايات المتحدة، في ما يُعرف اقتصاديًا بـ”التمرير الكامل” (Complete Pass-through) وهو مصطلح يُستخدم لوصف الحالة التي تنتقل فيها التكلفة الإضافية الناتجة عن فرض رسوم جمركية (أو أي ضرائب أو تكاليف أخرى) بالكامل إلى المستهلك النهائي، من دون أن يتحمّلها المستورد أو البائع.
وكانت النتيجة بكل وضوح خسارة مباشرة تحملها المستهلك الأميركي.
وعلى مدى أكثر من عقدين، ساهم انخفاض الرسوم الجمركية الأميركية في جعل الواردات أرخص نسبيًا للمستهلكين، بحسب هيو جيمبر، استراتيجي الأسواق العالمية في شركة “جي بي مورغان لإدارة الأصول”.
وأضاف أن هذا الانخفاض ساعد على إبقاء أسعار السلع ثابتة تقريبًا منذ عام 2001، في مقابل ارتفاع أسعار الخدمات إلى الضعف، استنادًا إلى بيانات رسمية.
ويُعد عام 2001 محطة مفصلية في هذا السياق، إذ شهد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية. ما أدى إلى طفرة في صادراتها إلى الولايات المتحدة، وأسهم في خفض أسعار عدد كبير من السلع الاستهلاكية.
وكما حدث في الولاية الأولى، يُرجّح أن تؤدي الرسوم الجديدة إلى زيادة أسعار السلع في الولايات المتحدة مجددًا. ويتفق مع هذا التوقع رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، الذي صرّح في 18 يونيو قائلاً: “شهدنا ارتفاعًا طفيفًا في تضخم السلع، ونتوقع بالتأكيد المزيد من هذا الارتفاع”.
وتعكس هذه التصريحات المخاوف المتزايدة من أن السياسات التجارية القائمة على الرسوم المرتفعة قد تضر بالاقتصاد المحلي، لا سيما عبر تضييق هوامش الإنفاق الاستهلاكي ورفع تكاليف المعيشة للأسر الأميركية.
انعكاس سلبي على النمو الاقتصادي
من المرجح أيضًا أن تؤدي الرسوم الجمركية إلى تقليص الناتج الاقتصادي للولايات المتحدة، كما حدث في السابق. فقد أظهرت دراسة نُشرت في عام 2020، استندت إلى بيانات من 151 دولة (بما فيها الولايات المتحدة) خلال الفترة من 1963 إلى 2014، أن الرسوم الجمركية لها “آثار سلبية مستمرة على حجم الاقتصاد”، أي الناتج المحلي الإجمالي للدولة التي تفرضها.
وهناك عدة تفسيرات محتملة لذلك: أحد هذه التفسيرات، وفقًا لما قاله هيو غيمبر لشبكة CNN، هو أنه عندما تكون الرسوم الجمركية منخفضة أو غير موجودة، فإن الدولة المعنية تستطيع التركيز على الأنشطة الاقتصادية التي تتمتع فيها بميزة تنافسية، ومن ثم تصدير تلك السلع والخدمات.
وأضاف غيمبر: “إذا رفعت الرسوم الجمركية، فلن ترى نفس المستوى من التخصص”، مشيرًا إلى أن النتيجة ستكون انخفاضًا في إنتاجية العمل.
وأوضح أن “اليد العاملة يمكن أن تُستغل بشكل أفضل في قطاعات أخرى من الاقتصاد، حيث ستمتلك الدولة ميزة تنافسية أكبر”.
أسباب إضافية لانكماش الاقتصاد عند رفع الرسوم الجمركية
أشار باحثو دراسة عام 2020 – ومعظمهم من خبراء صندوق النقد الدولي – إلى أن أحد الأسباب الأخرى وراء إمكانية انكماش الاقتصاد عند فرض رسوم جمركية أعلى هو ارتفاع تكلفة المدخلات المستوردة.
وقدم أنطونيو فاتاس، الأستاذ في كلية إنسياد لإدارة الأعمال، نفس التفسير قائلاً: “أنا عامل أعمل في مصنع، ولإنتاج ما ننتجه نحتاج إلى استيراد رقائق إلكترونية من تايوان. هذه الرقائق أصبحت أكثر تكلفة. النتيجة أنني والشركة نخلق قيمة أقل لكل ساعة عمل”.
وهناك سبب ثالث أيضًا يجعل الرسوم الجمركية المرتفعة تضر الاقتصاد، ويتمثل في زعزعة الاستقرار القائم وإثارة حالة من عدم اليقين بشأن مستويات الضرائب على الواردات في المستقبل. وتزداد هذه الضبابية حدة هذا العام، نظراً للطبيعة المتقلبة لسياسات ترامب التجارية.
وتُظهر استطلاعات أجرتها الاتحاد الوطني للأعمال المستقلة في الولايات المتحدة أن هذا الغموض بدأ بالفعل يُثقل كاهل رغبة الشركات الأميركية في الاستثمار. إذ تراجع عدد الشركات الصغيرة التي تخطط لإنفاق رأسمالي خلال الأشهر الستة المقبلة في أبريل إلى أدنى مستوى له منذ أبريل 2020، حين كان وباء كوفيد يجتاح العالم.
وقال الاتحاد: “سيظل الاقتصاد يتعثر طالما لم تُحل مصادر عدم اليقين الرئيسية – بما في ذلك الرسوم الجمركية. من الصعب توجيه سفينة وسط أجواء ضبابية”.
وبغض النظر عن العوامل المحددة، فإن مؤسسات اقتصادية كبرى مثل صندوق النقد الدولي ترى أن الرسوم الجمركية المرتفعة ستؤدي إلى تراجع إنتاجية الولايات المتحدة وناتجها المحلي.
الوظائف في مهب الريح
لكن، ماذا عن تأثير الرسوم الجمركية على خلق فرص العمل؟ من المفاجئ أن رفع التعرفات على الواردات غالبًا ما يؤدي – وفقاً لدراسات رسمية – إلى زيادة طفيفة في معدلات البطالة عبر مختلف الدول.
وطرح دوغ إروين، أستاذ الاقتصاد في كلية دارتموث، مثالاً يوضح تفسيراً منطقياً لهذا الأثر، مشيراً إلى أن الأمر مرتبط بارتفاع تكلفة السلع المستوردة.
وقال إروين: “عدد من الدراسات أظهرت أننا – في المجمل – فقدنا وظائف أكثر مما كسبنا بسبب الرسوم الجمركية على الصلب التي فُرضت في عام 2018، وذلك لأن عدد العاملين في الصناعات التي تعتمد على الصلب (كمادة خام) أكبر بكثير من عدد العاملين في صناعة الصلب نفسها”.
بمعنى آخر، فإن التكاليف المرتفعة تؤثر سلبًا على القطاعات التي تستخدم المواد المستوردة، مما يدفعها إلى تقليص نشاطها وتسريح جزء من موظفيها، وهو ما يفوق بكثير أي مكاسب توظيف محتملة في الصناعات المحمية.
كشفت دراسة أجراها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أن ارتفاع تكاليف المدخلات نتيجة زيادة الرسوم الجمركية في عامي 2018 و2019 أدى إلى خسائر في الوظائف داخل قطاع التصنيع الأميركي.
وذكرت الدراسة، الصادرة عام 2024، أن الأضرار الناتجة عن ارتفاع التكاليف تفاقمت بسبب الضرائب الانتقامية التي فرضتها دول أخرى على الصادرات الأميركية، ما أدى إلى تقويض الأثر الإيجابي المحدود الذي حققته الرسوم الجمركية في تعزيز التوظيف في الصناعات المحلية.
وأشار التقرير إلى أن تدابير الرد الانتقامي من قبل الدول الأخرى تشكل خطرًا كبيرًا عند اللجوء إلى خيار الرسوم الجمركية، حيث أن الرسوم الأعلى على الصادرات الأميركية ترفع أسعارها بالنسبة للمستهلكين الأجانب، مما يضعف الطلب عليها.
وفي أعقاب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم جديدة هذا العام، سارعت كبرى الدول الشريكة تجاريًا للولايات المتحدة إلى الرد برسوم مضادة، وهو ما دفع واشنطن لاحقًا إلى التوصل إلى هدنة مؤقتة مع كل من الصين والاتحاد الأوروبي، لتفادي المزيد من التصعيد التجاري.
حرية التجارة بين المكاسب والخسائر
رغم الإجماع الواسع بين الاقتصاديين على أن حرية التجارة ساهمت في تعزيز الاقتصاد العالمي خلال العقود الأخيرة، إلا أن هذا المسار لم يكن خاليًا أيضا من الخسائر، خصوصًا على المجتمعات والعمال الأكثر عرضة للمنافسة الأجنبية.
خسائر الوظائف هي إحدى أبرز التحديات التي ترافق التجارة الحرة، خاصة في المناطق التي تواجه منافسة مباشرة من الشركات والمصانع الخارجية.
هذا التأثير يشبه إلى حد كبير تأثير التقدم التكنولوجي، إذ قال هيو جيمبر من “جيه بي مورغان لإدارة الأصول” إن الوظائف الصناعية كنسبة من إجمالي سوق العمل انخفضت في جميع أنحاء العالم، مشيرًا إلى دور الأتمتة والتقنيات الحديثة.
وأضاف جيمبر أن التعامل مع آثار التجارة الحرة يجب أن يسير بمبدأ “التحول العادل”، وهو مفهوم يدعو إلى ضمان انتقال سلس ومنصف للعمال في ظل التغيرات الاقتصادية، سواء في اتجاه التجارة أو نحو اقتصاد أخضر، عبر تأهيلهم بمهارات جديدة أو إعادة تدريبهم في مجالات واعدة.
الاعتماد المفرط على سلاسل التوريد العالمية شكّل أيضًا أحد مخاطر التجارة الحرة، كما اتضح خلال جائحة كورونا، حين تسببت اختناقات في سلاسل الإمداد في نقص حاد في منتجات أساسية مثل الكمامات وأجهزة التنفس الصناعي في الولايات المتحدة ودول أخرى.
لكن مع ذلك، لا يرى معظم الاقتصاديين أن الرسوم الجمركية وسيلة فعالة لبناء قاعدة صناعية محلية، بحسب أنطونيو فاتاس من كلية INSEAD، الذي قال إن الدعم الحكومي المباشر لبعض الصناعات يعتبر أداة أكثر نجاعة وفعالية.
وربما يكون أقوى دفاع عن التجارة الحرة هو دورها في الحفاظ على السلام بين الدول. ففي مارس الماضي، أشار ديفيد كيلي، الخبير الاقتصادي لدى “جيه بي مورغان”، إلى أن العلاقات التجارية الوثيقة بين الدول تزيد من كلفة النزاعات المحتملة، وهو ما يدفع الدول إلى الحفاظ على الاستقرار والتعاون بدلاً من التصعيد والصراع.
باختصار، كلما زاد ترابط التجارة بين الدول، قلّت شهية الحروب فيما بينها.