النفط السوري: من رماد الحرب إلى أمل الانتعاش الاقتصادي

بعد 14 عاماً من الانقطاع، شهدت سوريا حدثاً اقتصادياً بارزاً تمثل في تصدير أول شحنة نفط خام منذ عام 2011. هذه الخطوة، التي جاءت بعد رفع العقوبات الدولية عن البلاد، تطرح تساؤلات حول دلالاتها الحقيقية.

ففي الوقت الذي تعهدت فيه الحكومة الجديدة بإعادة إحياء الاقتصاد، يرى خبراء أن هذه الشحنة مؤشر على بداية الانتعاش، بينما لا يراها آخرون كذلك قبل أن تتكامل السياسة النفطية والغازية مع بقية مكونات السياسة الاقتصادية الكلية.

فهل تُشير هذه الشحنة إلى أن قطاع الطاقة السوري قد بدأ يتعافى بالفعل، بعد أن دمرته الحرب والعقوبات؟ وهل تُمثل بداية لعودة سوريا إلى الاقتصاد العالمي، أم أنها خطوة أولى في طريق طويل ما زال مليئاً بالتحديات؟

عودة النفط السوري إلى الأسواق العالمية

ونقلت “رويترز” عن مسؤول سوري في قطاع الطاقة أن سوريا صدرت 600 ألف برميل من النفط الخام الثقيل من ميناء طرطوس، في أول عملية تصدير رسمية معروفة للنفط السوري منذ 14 عاماً. هذه الخطوة تأتي بعد أن كانت البلاد تصدر نحو 380 ألف برميل يومياً قبل عام 2011، وهو ما يعكس تحولاً جذرياً في المشهد الاقتصادي والسياسي.

 وفقاً لما قاله معاون مدير الإدارة العامة للنفط والغاز بوزارة الطاقة السورية، رياض جوباسي، فإن النفط تم استخراجه من حقول لم يحددها، وتمت عملية الشراء من قبل شركة “بي سيرف إنرجي“، على متن الناقلة “نيسوس كريستيانا”. هذا التطور يشير إلى أن الحكومة الانتقالية الجديدة، التي تعهدت بإحياء الاقتصاد بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد في ديسمبر الماضي، بدأت بالفعل في تفعيل القطاعات الحيوية.

جاءت هذه الخطوة في أعقاب رفع العقوبات الأميركية والأوروبية التي كانت سارية لعدة أشهر بعد الإطاحة بالنظام السابق، مما جعل من استيراد الطاقة أمراً صعباً. ولكن بعد أن أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً في يونيو الماضي يقضي برفع العقوبات المفروضة على دمشق، بدأت شركات أميركية في وضع خطط للمساعدة في استكشاف واستخراج النفط والغاز في سوريا.

ووقعت سوريا أيضا مذكرة تفاهم بقيمة 800 مليون دولار مع شركة “دي بي ورلد” لتطوير وإدارة وتشغيل محطة متعددة الأغراض في طرطوس، بعد أن ألغت سوريا عقداً مع شركة روسية كانت تدير الميناء في عهد الأسد.

 وتقع معظم حقول النفط السورية الرئيسية في شمال شرق البلاد، وهي مناطق تخضع لسيطرة السلطات الكردية. وقد انتقلت السيطرة على حقول النفط عدة مرات خلال الحرب السورية، وزادت العقوبات الأميركية والأوروبية من صعوبة عمليات التصدير والاستيراد المشروعة. وظلت العقوبات سارية لعدة أشهر بعد إطاحة الأسد.

عربش: الشحنة تمثل نوعية نفط لا يمكن الاستفادة منها في التكرير 

ومن دمشق يقول الأكاديمي والمستشار الاقتصادي الدكتور زياد عربش في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” رداً على سؤال فيما إذا كانت هذه الشحنة بداية التعافي أم خطوة رمزية: “إن تصدير شحنة نفط (بحمولة 600 ألف برميل) باليوم من مرفأ طرطوس لا يمثل أبدأ بداية التعافي وكذلك لا تمثل خطوة رمزية كون الأمر يرجع إلى تصدير نوعية نفط لا يمكن الاستفادة منها في عملية التكرير مجدداً وهي (زوائد) عن بعض مشتقات الطاقة المطلوبة للسوق السورية”.

وأضاف: “فكما نعلم أن مصفاتي حمص وبانياس تكرران نفوط ممزوجة بنسب معينة ونوعية معينة ومخرجات هاتين المصفاتين تذهبان إلى السوق السورية والفائض (إذا كان هناك فائض وخاصة من مواد ثقيلة وتزيد عن حاجة السوق) فيصدر. لكن علينا أن نعرف أن سوريا اليوم (سبتمبر 2025) تحتاج إلى 180 – 200 ألف برميل كاستهلاك يومي لكل مشتقات الطاقة حيث تستورد الخام ويكرر وتستورد المشتقات وخاصة المازوت وكميات متنامية من البنزين (نتيجة استيراد السيارات وقطع المركبات مسافات أكثر نتيجة انتفاء الحواجز والخوف إلخ)”.

وقبل عام 2011 كان الإنتاج بحدود 380 ألف برميل باليوم وحاجة سورية 250 ألف برميل فيكرر 220 ألف برميل ويستهلك كمشتقات مع تصدير الفائض من بعضها (كالمقطرات) ويستورد المازوت والبنزين لتكملة تلبية الطلب الداخلي. لكن المعضلة اليوم تكتسب عدة أوجه، وفقاً للدكتور عربش وهي:

  • الإنتاج المحلي (من المنطقة الوسطى) وما يمكن تمريره من مناطق (قسد) لا يمثل بجميع الأحول نسبة 15 بالمئة (مع العلم أنه في مناطق قسد هناك فائض من الإنتاج).
  • بالنسبة للغاز فما تنتجه سوريا لا يتجاوز 30 بالمئة من حاجتها أي 6 مليون متر مكعب من الغاز باليوم وهناك توريدات الغاز الأزري ستصل لحدود 3،3 مليون متر مكعب من الغاز باليوم. وسورية تحتاج لـ 20 إلى 22 مليون م3/يوم. لتشغيل محطات التوليد والمعامل الصناعية (لاحقاً).
  • الطلب يزداد نتيجة ارتفاع الاستهلاك المنزلي وقطاع النقل ولعودة جزء مهم من النازحين.

سوريا تحتاج 5 أعوام لاستعادة مكانتها بتصدير النفط ومشتقاته

ويوضح عربش أنه لا يمكن لسورية أن تستعيد مكانتها بتصدير النفط (ومشتقاته) قبل 5 سنوات على الأقل وذلك بشرطين: استعادة الحقول والآبار في المناطق التي تسيطر عليها (قسد) وعودة الشركات النفطية الدولية لسورية (تلك التي كانت تعمل قبل الحرب والجديد منها).

ويشير الأكاديمي والمستشار الاقتصادي الدكتور عربش إلى أن النفط يعد أحد أهم الموارد اللازمة لتمويل عملية إعادة الإعمار ولعدة مستويات وقال “فحتى ولو لم ينم الطلب والاستهلاك الداخلي جوهرياً، فإن سورية تدفع شهرياً بحدود 100- 120 مليون دولار ثمن النفوط (لاستيراد الخام ومشتقاته وتلبية السوق المحلية) والغاز لاحقا (يمول الآن صندوق التنمية القطري توريدات الغاز من أذربيجان عبر الشبكة التركية ثم السورية).

وأضاف: “أهمية النفط ليس فقط بفاتورة الاستيراد الباهظة لكن أيضا لتوليد الكهرباء (من الفيول رغم أن الغاز أفضل كفاءة) ولتأمين مشتقات الطاقة ليس فقط كمادة احتراقية بل كمادة أولية، حيث هناك نحو 500 ألف منتج يستخرج من النفط، ومصافتي حمص وبانياس لا تنتجان إلا عدداً قليلاً منها من الكيروسين والغاز والمقطران مروراً بالبنزين والمازوت والفيول وتالياً عندما تستعيد سوريا مقدرتها على الإنتاج كما كانت قبل 2011 فإنها يمكن تمويل استيراد مستلزمات الإنتاج من مشتقات الطاقة (من الأسمدة والبتروكيماويات إلى الزيوت ومشتقات البلاستيك والدهانات إلخ..) وذلك من تصدير الفائض وبالتالي تحريك عجلة الإنتاج الصناعي”.

ويختم عربش حديثه بالقول: “لا يمكن أن تمثل الشحنة مؤشر على الانتعاش قبل تكامل السياسة النفطية والغازية مع بقية مكونات السياسة الاقتصادية الكلية حيث لا بد وقبل استهلاك الطاقة والنفط (تحديداً من الإنتاج المحلي أو من الاستيراد) قبل وقف فوري للهدر والذي يبلغ نسب غير عقلانية على الإطلاق، وقبل تحديث كل منظومات الطاقة الفرعية مع استعجال مشاريع الطاقة المتجددة واعتماد التسعير الاقتصادي- الاجتماعي”.

الشوبكي: تصدير النفط أمل جديد للاقتصاد السوري ومؤشر سياسي مهم

من جهته، يرى مستشار الطاقة الدولي عامر الشوبكي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن خطوة تصدير النفط السوري بعد غياب استمر 14 عاماً تمثل بادرة إيجابية، بل أمل جديد للاقتصاد السوري، كما تحمل في طياتها مؤشرات سياسية مهمة. وأكد أن هذه التطورات تعكس وجود تفاهمات مع المناطق الأكثر إنتاجاً للنفط، (المناطق تخضع لسيطرة السلطات الكردية) في شمال شرق سوريا تتركز معظم الآبار، وهو ما قد يفتح الباب أمام تفاهمات أوسع تسمح بتأمين احتياجات البلاد محلياً، مع إمكانية تصدير الفائض كما حدث مع الشحنة الأخيرة البالغة 600 ألف برميل.

وقال الشوبكي: “إن سوريا كانت قبل الأزمة تنتج نحو 380 ألف برميل يومياً، وتحقق اكتفاءً ذاتياً وتصدر الفائض، وهو ما يعكس أهمية استئناف التصدير ولو بشكل رمزي في الوقت الراهن، خاصة وأن هذه العملية تدل على إمكانية نقل النفط وتخزينه ومن ثم شحنه عبر ميناء طرطوس.

وأضاف أن هذا التطور يتقاطع مع الاستثمارات الكبيرة التي يشهدها الميناء بعد الاتفاق مع موانئ دبي العالمية (دي بي ورلد) لتطويره باستثمارات تصل إلى 800 مليون دولار، الأمر الذي سيحدث فرقاً ليس فقط في صادرات النفط، بل في الصادرات السورية عموماً.

وأكد الشوبكي أن تصدير أول شحنة بعد سنوات طويلة يدل على وجود تفاهمات غير معلنة لتمرير النفط من المناطق الشرقية، حتى وإن لم تكتمل المفاوضات بعد بين الحكومة والأكراد. ورأى أن العوائد المتوقعة من الشحنة – والتي تقدر بنحو 40 مليون دولار يجعل من عودة التصدير خطوة بالغة الأهمية لإحياء شريان حيوي للاقتصاد.

وأشار مستشار الطاقة الدولي الشوبكي إلى أن الشحنة الحالية مرتبطة بشركة “بي سيرف إنرجي”، التي ترتبط بدورها بشركة “بي بي إنرجي”، كما أن هناك شركات أخرى أبدت اهتماماً بالدخول في قطاع النفط السوري. وقال إن تطوير مرافق ميناء طرطوس سيجعل المرفأ قادراً على استيعاب صادرات أكبر مستقبلاً، ويدعم عودة سوريا إلى خارطة التصدير العالمية.

وختم الشوبكي بالتأكيد على أن هذه الخطوة فاجأت الكثير من المراقبين، وأظهرت قدرة سوريا على إدارة وتطوير مرافقها النفطية، مشدداً على أن رفع العقوبات لعب دوراً كبيراً في تمكينها من العودة إلى التصدير، في إعلان رسمي عن بداية خروجها من حالة العزلة الاقتصادية التي عاشتها لسنوات طويلة، وفتح صفحة جديدة في تاريخها.

يذكر أن سوريا تمتلك حاليا احتياطات نفطية مؤكدة يبلغ حجمها 2.5 مليار برميل تعادل قيمتها بأسعار اليوم 170 مليار دولار، في حين قد بلغت خسائر القطاع بسبب الحرب نحو 150 مليار دولار.

المصدر – سكاي نيوز

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى