“الفارس الأسود” يقود ثورة كوريا في عالم ما بعد الكارثة
تدور نسبة كبيرة من الأعمال الفنية الكورية الجنوبية حول موضوع محدد هو الظلم الاجتماعي والاقتصادي وتهميش الفقراء، في مقابل منح امتيازات بلا حدود للأغنياء وأصحاب المناصب العليا في قيادة المجتمعات.
ولعل العنوان العريض لتلك الأعمال هو فيلم “الطفيلي” (Parasite) لعام 2019 الذي فاز بجائزة الأوسكار، وتلته مجموعة من المسلسلات والأفلام، قد يكون الواحد منها عاطفيا أو بوليسيا أو في إطار “الحركة” (الأكشن)، لكن الإطار العام للقصة ومحور صراعها هو ذلك الظلم متعدد الوجوه.
تهميش الفقراء
ويؤكد مسلسل ” الفارس الأسود” (Black Knight) الذي يعرض حاليا على شاشة منصة نتفليكس أن ذلك الصراع المجتمعي متجذر في الفكر السينمائي الكوري بشكل لا يمكن أن يجعل المتابع لمثل هذه الأعمال أن يعتبرها موجة وستنتهي؛ فالمسلسل المكون من 6 حلقات لا يكتفي بالخروج من الزمن الحالي إلى عام 2071، ولكنه يحول كوريا نفسها إلى صحراء بلا موارد طبيعية أو أكسجين، مما يجعلها غير صالحة لحياة البشر أو غيرهم من الكائنات الحية، ورغم ذلك يعاد بناء مجتمع من نسبة لا تزيد على 1% من الشعب، وتقسم هذه النسبة الضئيلة إلى 3 طبقات، بينما يطرد الأغلبية خارج أسوار المدينة، ليشكلوا ملامح طبقة من الفقراء والمنبوذين الذين تجتاحهم وحوش الفقر والتجويع ونقص الأكسجين.
وتدور أحداث “الفارس الأسود” حول مفصل حقيقي شديد الأهمية، لكنه خفي بالنسبة للكثيرين نظرا لوضوحه والاعتياد على وجوده، وهو مفصل سلاسل الإمداد، وفي مجتمع يخلو من الغذاء والماء والهواء تصبح سلاسل الإمداد شريان الحياة للبشر، ويصبح سائقو شاحنات التوصيل أبطال المجتمع ورموزه.
ويبرز من بينهم سائق باسم “5-8” -يجسد دوره الممثل كيم وو بن- وهو سائق توصيل أسطوري، ملتزم بعمله، ولا حدود لقوته وقدرته على حماية شحنات الأغذية والأكسجين من هجمات من يطلق عليهم “الصيادين”، وهم بشر مطرودون من المستعمرة الوحيدة الباقية، لا موارد لهم، ويضطرون لسرقة طعامهم وهوائهم.
يكتشف “5-8” مؤامرة للقضاء على الفقراء، وتهجير سكان المستعمرة إلى مكان أكثر قابلية للحياة، ورغم تمتعه بكل مميزات سكان المنطقة الخاصة في المجتمع، فإنه يتعاطف مع الفقراء الذين أتى منهم، بل ويشكل تنظيما سريا للقضاء على النظام الحاكم بكل ظلمه، ليعيد مع رفاقه بناء مجتمع أكثر عدلا.
تسيطر على المجتمع مجموعة “تشيومينغ”، وهي عبارة عن عصابة من المهندسين المعماريين والسياسيين، الذين يقومون ببناء مجتمعات مسورة مزودة بإمدادات أكسجين، وبالتالي يسير الجميع في شوارعها وبيوتها بلا أقنعة على عكس باقي أجزاء المستعمرة. ويسكن داخل تلك الأسوار أشخاص مميزون تحميهم تفاصيل أمنية تقضي بإطلاق النار أولا قبل محاولة فهم أي شيء.
ملامح مظلمة
فكرة العمل عبارة عن نبوءة مظلمة بتحول كوكب الأرض إلى مكان غير صالح للحياة، وقيام شخص باختيار نسبة صغيرة من الكوريين في أرض الدولة الكورية، لكن كلا منهم يحصل على نصيب محدد من الهواء والطعام والماء وسط صحراء وظلمة لا تنتهي.
استخدم مخرج العمل التصوير العلوي بلقطات شديدة الاتساع لتأكيد ذلك الفراغ الكوني من جهة، وتصوير ذلك التحول الغريب لمجموعات البشر التي كانت تعيش سابقا في أماكن منظمة ومصممة بشكل جميل، إلى قطعان من المشردين يشبهون في المظهر الجماعي والفردي حيوانات صحراوية وسط عاصفة رمال لا نهاية لها.
وجاء النص داعما للفكرة ومؤكدا عليها رغم تمسكه بملامح ما قبل الكارثة، إذ خرج من بين هؤلاء الفقراء صبي يرى في “5-8” قدوة ويحلم أن يصبح مثله، ويسلك الصبي الذي يدعى “034” -ولعب دوره الممثل كانغ يو سوك- طريقه عبر مسابقة أقرب إلى مهرجان لاختيار شاب يصلح سائقا للتوصيل بعد موت أحدهم.
لم يكن مهرجان اختيار الشاب الأقوى سوى وسيلة إلهاء لفقراء المستعمرة وخدعة لجمعهم أمام الشاشات لمشاهدة مراحل المسابقة، ومن ثم تفجير المكان وقتلهم.
يكتشف كل من “5-8″ و”034” الخطة، ومعهما مديرة المخابرات التي تقرر الالتزام بالقانون في مواجهة الخطة الإجرامية التي كان يشرف عليها ابن رئيس المستعمرة ومؤسسها، ليقرر الثلاثة خوض معركة مصيرية.
جاء تجهيل أسماء كل من سائق التوصيل البطل “5-8” وخليفته الصبي القادم من شتات الفقراء خارج المستعمرة، ليشير ببلاغة أقرب إلى الأدب لفكرة اعتبار حكومة المستعمرة لهؤلاء العاملين والفقراء مجرد أرقام وليسوا بشرا يملكون أسماء وعائلات سوف تحزن عليهم.
ورغم معاناة نقص الهواء والطعام والماء، يعيش هؤلاء الفقراء حياة تفيض بالمعنى، إذ يشكلون صداقات حقيقية، ويقومون برعاية بعضهم البعض، وقد اختار مبدعو العمل من بين سكان المستعمرة وموظفيها من يملكون سمات إنسانية، لضمهم للأخيار الذين سيشاركون في الثورة على الظلم والتآمر.
كانت مديرة المخابرات قد عثرت على الصبي الذي تدعوه الحكومة بالرقم “034” مصابا وجائعا، فضمته لعائلتها وتولت رعايته كأخ صغير، وحين هوجم بيتها وقتلت شقيقتها، تواجد سائق التوصيل البطل “5-8” الذي قتل المهاجمين واستطاع أن ينقذ الطفل، وهكذا جمع صناع العمل بين البطلين الخيرين لتشكيل ملامح بطل جديد سوف يقود فيما بعد ثورة الفقراء على احتكار الثروة واستباحة أرواح البشر.
نظرية المؤامرة
تبدو أغلب تفاصيل نظرية المؤامرة التي ترددها نسبة كبيرة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي قادمة من شاشة هوليود ونتفليكس وغيرها من الشاشات. بدءا من دمار تتعرض له الأرض بسبب الاصطدام بجسم فضائي، وانتهاء بعمليات زرع شرائح رقمية للسيطرة عليهم، حيث زرعت لموظفي الحكومة في المستعمرة الكورية شريحة تحت الجلد يتم تفجيرها إن عصى الموظف الأوامر.
“الفارس الاسود” مسلسل طموح حقق مشاهدات عالية، لكنه لا يقارن ببساطة وأصالة “لعبة الحبار” (squid game) القادم من كوريا الجنوبية أيضا والمهموم بسيطرة قلة قليلة على البشر ومصائرهم وأموالهم، ولعل الفارق هنا يعود بشكل أساسي إلى تلك التشابهات المتعددة بين أجزاء وشخصيات وأجواء المسلسل وعدد من الأعمال الأميركية، مثل “ماكس المجنون” (Mad Max)، و”رجل البريد” (The Postman).
المصدر : الجزيرة