الجزائر ومعرض التجارة البينية الإفريقية: قراءة في الدلالات الاقتصادية والسياسية لطبعة استثنائية

اختتمت الجزائر العاصمة فعاليات الطبعة الرابعة من معرض التجارة البينية الإفريقية (4–10 سبتمبر 2025)، التي نُظمت تحت شعار "بوابة نحو فرص جديدة". الحدث، الذي وُصف بالأكبر منذ إطلاق هذه المبادرة، لم يكن مجرد تظاهرة تجارية فحسب، بل مثّل إعلاناً واضحاً عن دخول الجزائر مرحلة جديدة في دورها كفاعل إقليمي إفريقي، يجمع بين الطموح الاقتصادي والحضور السياسي على الساحة القارية.

1. الجزائر كقطب اقتصادي صاعد في إفريقيا

الأرقام التي حققها المعرض تعكس تحوّلاً نوعياً. فقد بلغ عدد العارضين أكثر من 2.100 مشارك، وتجاوز عدد الزوار 112 ألف شخص حضورياً وافتراضياً، في حين حصدت الجزائر عقوداً واتفاقات بقيمة 23 مليار دولار من أصل 48.3 مليار دولار هي القيمة الإجمالية للصفقات المسجلة. هذه النتائج تؤكد أن الجزائر باتت تحتل مكانة استراتيجية في سلاسل التجارة الإفريقية، وأنها قادرة على المنافسة في سوق يزداد اندماجاً مع تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية.

2. البعد السياسي: رسالة تضامن وسيادة

الافتتاح الذي ترأسه الرئيس عبد المجيد تبون بحضور 14 رئيس دولة وحكومة، أظهر الجزائر في موقع “العرّاب السياسي” لمسار التكامل الإفريقي. فخطاب الرئيس، الذي شدد على “إفريقيا قوية، متضامنة ومزدهرة”، جاء متوافقاً مع سياسة الجزائر الخارجية القائمة على دعم حركات التحرر والتنمية السيادية. هذه الرسائل السياسية ترافقها خطوات عملية، مثل الدعوة لتسريع استكمال مشاريع البنية التحتية القارية وتبسيط الإجراءات الجمركية، بما يعزز استقلال القرار الاقتصادي الإفريقي.

3. الأبعاد الإقليمية والدولية

نجاح المعرض لا ينفصل عن موقع الجزائر كحلقة وصل بين إفريقيا وأوروبا والمتوسط. حضور مؤسسات دولية كالاتحاد الإفريقي والبنك الإفريقي للتصدير والاستيراد منح التظاهرة بعداً دولياً، وأعاد التأكيد على أن الجزائر لم تعد مجرد “ممر” للسلع، بل لاعباً مركزياً في رسم خريطة الاستثمارات والتجارة القارية. في الوقت نفسه، فإن التركيز على قطاعات الزراعة والطاقة والصناعة ينسجم مع حاجات إفريقيا لتقليل تبعيتها للأسواق الخارجية.

4. ما وراء الأرقام: تكريس نموذج “الاقتصاد المنتج”

إضافة إلى الأرقام القياسية، برز المعرض كفرصة لعرض النموذج الاقتصادي الجزائري الجديد القائم على تنويع الصادرات خارج المحروقات. الشركات الجزائرية وجدت في هذه المنصة وسيلة لاقتحام أسواق إفريقية، مستفيدة من الموقع الجغرافي للجزائر وقدراتها اللوجستية. هذا التحول يعكس إرادة سياسية واضحة في تجاوز الاعتماد على النفط والغاز كمصدر أساسي للعائدات.

5. الاستثمار في رأس المال البشري والشباب

أحد أبرز الإعلانات كان إطلاق صندوق خاص لتمويل المؤسسات الناشئة والمبتكرين الشباب في إفريقيا. المبادرة، التي وُصفت بالتاريخية، تشير إلى أن الجزائر لا تراهن فقط على الصفقات الآنية، بل على استثمار طويل المدى في رأس المال البشري الإفريقي، بما يضمن استدامة النمو القاري.

6. التحديات القائمة

رغم النجاح، تظل هناك تحديات. فتنفيذ الالتزامات التصديرية التي بلغت 11.6 مليار دولار يتطلب استقراراً في بيئة الأعمال، وتنسيقاً فعلياً بين الحكومات لتبسيط الإجراءات الحدودية. كما أن المنافسة بين القوى الإقليمية والدولية في إفريقيا ستفرض على الجزائر بذل مزيد من الجهد للحفاظ على موقعها الريادي الذي برز في هذه الطبعة.

خاتمة: نحو إفريقيا جديدة

معرض الجزائر 2025 لم يكن مجرد حدث اقتصادي؛ بل محطة سياسية تؤسس لرؤية مستقبلية عنوانها أن إفريقيا هي المستقبل، وأن الجزائر تريد أن تكون في قلب هذا المستقبل. نجاح هذه الطبعة يضع على عاتق الجزائر مسؤولية مواصلة قيادة مسار التكامل القاري، وتحويل الالتزامات إلى إنجازات ملموسة، بما يجعل من القارة قوة فاعلة على المسرح الدولي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى